«النفق» قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم
قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

يجلس الشيخ أكرم هادئا مطمئنا فوق عتبة المسجد، يرتل القرآن ترتيلا، بينما المدافع تدك المدينة دكًا.

أيهما كان يلقي سَناه الوضاح على وجه الآخر؟!

 الشيخ الطاعن في الكبر، بلحيته الفضية العظيمة ووقاره الآسر للقلوب، أم هذا المصحف الساكن بين راحتيه، وقد أثرت قبضتاه في غلافه الأصفر العتيق قدم البلدة العتيقة؟!

يتصافحان في سكون، تحيطهما هالة من نور، وكأنهما انفصلا عن هذه المدينة وارتقيا وقد أخذا عهدا من آلات التدمير ألا تقربه ومصحفه.

 

إنفجار مدو في بيت مجاور غير بعيد، تطايرت الشظايا بالقرب منه، أصدر تكبيرة وقام منتفضا، هذا بيت صديقي أخي أبو عمار، كان يصلي معي صلاة العصر.

 

يعاون أهل الحارة في رفع الأنقاض، وإغاثة سكان هذا البيت، يصيح بين الفينة والأخرى (أبا عماار) لكن لا مجيب.

 ساعات صعبة مريرة، نساء وأطفال استخرجوهم تتدلى أجسادهم بلا حياة، صوت أنين واستغاثات صادرة من بين الركام، أحد المسعفين يضع فمه بين الحجارة المهشمة يصيح (أمجد أمجد هل تسمعني؟ إياك والأمانة، هل أنت عائش؟)

يحل الظلام بين رائحة البارود والموت، وما زال المجرمون يمنعون سبل الحياة عن القطاع من كهرباء وماء ووقود، تتوافد فرق الإنقاذ من الأهالي، بينهم أجانب، ربما كانوا من الصليب الأحمر أو مراسلي الصحف.

يعود حيث ترك مصحفه متعبا، بعد أن أخرجوا كثيرا من الشهداء ومن الجرحى، أحدهم يؤكد وجود أحياء في البدروم وقد سمع استغاثاتهم.

يقاوم الإرهاق، يراقب باهتمام عمليات الإنقاذ الجارية تحت مصابيح الهواتف الواهنة، يسأل بين الفينة والأخرى: هل وجدتم أبا عمار؟

 تؤلمه بشاعة الموت والانتقام الغاشم، تمزعه صرخات النساء وبكاء الأطفال بينما كان يقترب منه شخص غريب،

 يبدو أنه مصاب يكابد محاولة الوصول إليه، نهض الشيخ ليعاونه، يأخذ بيده، يجلسه إلى جواره، يتفرس وجه الرجل الشاحب في الظلام، كان مخضبا بالدماء، يرتعد بشدة ويتألم في صمت:

_هل إصابتك خطيرة، هل كنت تحت الركام أم أصابتك شظية، لم لا تتكلم؟

يحاول الشيخ أكرم أن يتبين ملامح الرجل، لم أرك تصلي معنا من قبل، هل أنت غريب عن الناحية، لم لا تجيبني؟! دعني أساعدك، يمسكه من كتفه يحاول أن يفتش عن جرحه ومصدر نزيف الدماء، فيصدر صرخة قوية، رفع الشيخ يده عنه سريعا:

_أنت امرأة!!

ولكن هذه سترة الرجال ال... ارفعي تلك الكوفية عن وجهك دعيني أراك، يستعين بضوء هاتفه الصغير، يتفحصها جيدا وهي تحاول أن تخفي ملامحها عنه.

صوت تكبيرات تأتي من ناحية الردم، يسألهم:

_هل بينهم أبو عمار؟

_لا، هذا أمجد وقد نال الشهادة تحت الركام.

يحوقل الشيخ ويتمتم ثم يواجهها:

_أنت إذا أمانة الشهيد أمجد رحمه الله وهذا شاله وهذه سترته سترك بها، أليس كذلك؟

_أستحلفك بالله أيها الشيخ الطيب أن تساعدني على الهرب (نطقتها بلغة عربية ركيكة) ثم أضافت:

_أنا مدنية ليس لي ذنب، هم اختطفوني من أمام بيتي وزوجي غائب ولا أعرف ما مصير أطفالي (تجهش بالبكاء متوسلة)

_ولكننا نعرف مصير أطفالنا، يشير إليها والأطفال الذين أخرجوهم من تحت البيت وقد سحقتهم الأنقاض.

_أقسم لك أني أتألم لهم مثلكم، ونتمنى لكم الخير والسلام فلم تكرهوننا؟!

_نحن لا نكرهكم، نحن نقاومكم وقد اغتصبتم بلادنا وبيوتنا عنوة تتمتعون بخيراتنا بينما نحن نعيش على الحافة وطعامنا الكفاف، وإذا ما حاولنا المقاومة والتعبير عن الغضب، كانت قوتكم الغاشمة تقتل النساء والأطفال وتقتلع أشجار الزيتون، أخبريني حقا، مالكم وأشجار الزيتون، لم تكرهونها وتقتلعونها؟!

_لست منهم، أرجوك، كل ما أريده منك أن تدلني على طريق آمن؟

_ربما تركتك ترحلين، لكن ليس لكم ها هنا طريق آمن، أنتم غرباء مهما طال عليكم الأمد.

 

حركة مرتبكة وزحام يقترب منهما، نساء تنوح وهدير صوت الرجال يحملون جريحا ينزف، أحدهم يأمره:

¬_افتح النفق يا شيخ أكرم.

_حاضر، هذا صديقي أبو عمار.

يسرع الرجل، يحرك يدا خشبية جوار باب المسجد فينكش مدخلا في الأرض تحت العتبة التي يجلس عليها، يعود ويغلقها فور أن يختفي فيها الرجال يحملون الجريح، يلتفت الشيخ يبحث عنها، فلا يجدها؛ ينتبه أنه كان لا يجب أن يفتح النفق أمامها!

 

تمر الأيام ثقيلة تحت النيران وتحت القصف، وبين همهمات بأن المغتصب سيقتحم المدينة بريا، والشيخ لا يغادر عتبة المسجد، فإذا بفرقة هجومية للنازيين الجدد تقودها امرأة، كانت تشير لفوهة الدبابة أن تتوجه إلى الشيخ وإلى العتبة الجالس عليها.